شؤون دولية

أرمينيا تخطو نحو الغرب وروسيا تحذر من سيناريو أوكرانيا.

عادت موسكو إلى سابق مخاوفها من احتمالات تحول أرمينيا إلى تيارات “الثورات الملونة” التي لطالما استهدفت بلدان الاتحاد السوفياتي السابق منذ مطلع القرن الحالي، وكانت أرمينيا هدفاً لمثل هذه الثورات في أعقاب نجاح “ثورة الورود” في جورجيا عام 2003، و”الثورة البرتقالية” في أوكرانيا عام 2004، و”ثورة السوسن” في قيرغيزيا 2005.

وشهدت يريفان وكبريات المدن الأرمينية عديداً من المحاولات المماثلة في 2008، و2015 حتى نجحت انتفاضة 2018 التي انتهت بتغيير الدستور وتولي نيكول باشينيان رئاسة الحكومة، لكنها خاصمت الاستقرار وظل التوتر هو السمة السائدة في أرمينيا منذ ذلك الحين، بينما راحت السلطة في الجمهورية تتأرجح على شفا السقوط منذ اندلاع “الحرب” مع أذربيجان التي تتواصل مشاهدها حتى اليوم، بعد أن فرضت الأخيرة الأمر الواقع باستعادة معظم أراضيها المحتلة بما فيها مقاطعة ناغورنو قره باغ منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

وها هي يريفان تعود إلى سابق عهدها وتوتر علاقاتها مع موسكو، لترسل حكومة أرمينيا في خطوة عميقة المغزى بعيدة الدلالات، نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إلى برلمان الجمهورية للتصديق عليه على رغم عميق معرفتها بمعاني هذه الخطوة وتبعاتها، منذ إعلان المحكمة الجنائية الدولية لحكمها الصادر بحق توقيف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “بدعوى مسؤوليته عن ترحيل أطفال ونقل اشخاص دون سند قانوني من أوكرانيا إلى روسيا”.

الانضمام إلى “الناتو”

وقد جاءت هذه الخطوة من جانب أرمينيا في توقيت مواكب لما تردد عن مصادر الاتحاد الأوروبي حول احتمالات انضمام أرمينيا إلى حلف “الناتو”، وهي التصريحات التي وصفها نائب وزير الخارجية الروسية ألكسندر غروشكو بأنها “أوهام كبرى”، دحضها بقوله إن “البلدين يواصلان تعاونهما في المجالات السياسية والعسكرية”.

غير أن رئيس حكومة أرمينيا، نيكول باشينيان، كان قد أدلي بحديث صحافي إلى صحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية، قبل تصريح غروشكو نائب وزير الخارجية الروسية وصف فيه اعتماد أرمينيا على روسيا في مجال الأمن بأنه “خطأ استراتيجي”، وذلك فضلاً عما قاله حول أن “روسيا اليوم، عندما تحتاج إلى الأسلحة والذخائر، فمن الواضح أنها حتى لو أرادت ذلك، لن تكون قادرة على تلبية الاحتياجات الأمنية لأرمينيا”.

وأضاف رئيس الحكومة الأرمينية، “هذا المثال يجب أن يوضح لنا أنه في مجال الأمن، فإن الاعتماد أو الارتباط بمركز واحد فقط هو في حد ذاته خطأ استراتيجي”. وأعرب عن رأي مفاده أن “روسيا غير راغبة أو غير قادرة على الاحتفاظ بسيطرتها على ممر لاتشين”، وهو الطريق الجبلي في منطقة لاتشين في أذربيجان، والرابط الوحيد بين أرمينيا ومقاطعة ناغورنو قره باغ الذي يسيطر عليه الأرمن، وتعتبره أذربيجان جزءاً من أراضيها، وبحسب باشينيان، توقفت قوات حفظ السلام الروسية عن السيطرة على ممر لاتشين، واعترض على تفسير ذلك بأن الدول الغربية تدفع يريفان لإخراج روسيا من المنطقة، قائلاً “على العكس من ذلك، نرى أن روسيا نفسها تخرج من المنطقة بسبب الخطوات التي تتخذها أو التي لا تتخذها”.

ومن اللافت أيضاً في هذا الصدد، أن كل ذلك يجرى في وقت مواكب لبدء المناورات العسكرية المشتركة التي ستجمع الولايات المتحدة مع أرمينيا على أراضي الأخيرة خلال الفترة من 11- 20 سبتمبر (أيلول) 2023، ما يبدو على النقيض من التزامات أرمينيا بموجب معاهدة بلدان الأمن الجماعي التي تربطها مع كل من روسيا وبيلاروس وعدد من بلدان آسيا الوسطى.

وقد سارعت وزارة الخارجية الروسية للتقدم إلى يريفان بطلب “توضيحات في شأن تصديق البرلمان الأرميني على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية”، وقالت إنها ستبني عليها إجراءاتها، بناءً على رد الجانب الأرميني، ونقلت وكالة أنباء “تاس” الرسمية عن دبلوماسي روسي تصريحاته حول أن تصديق أرمينيا على نظام روما الأساسي سيكون موجهاً ضد المصالح الروسية، وقال الدبلوماسي تعليقاً على تصرفات السلطات الأرمينية “لقد طلبنا بالفعل من الجانب الأرميني توضيحاً في شأن هذا الأمر، وسنحدد خطواتنا التالية بناءً على مضمون الرد”.

وقد جاءت هذه الخطوة مواكبة لاستعداد أرمينيا لبدء مناوراتها العسكرية المشتركة مع الولايات المتحدة الأميركية، وكذلك بالتزامن مع توالي دعوات الانضمام إلى “الناتو”، ما دفع مجلس الاتحاد الروسي (المجلس الأعلى لغرفتي البرلمان) إلى التحذير من مغبة تكرار مسيرة أوكرانيا، واحتمال الاستجابة لمثل هذه الدعوات. ونقل موقع NEWS.ru الإلكتروني عن فلاديمير جباروف، النائب الأول لرئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الاتحاد، تحذيراته لأرمينيا التي قال فيها إن “هذا لن يحسن الوضع في جنوب القوقاز، ولن يساعد يريفان في المسائل الأمنية”.

ووصف البرلماني الروسي “الناتو” بأنه “هيكل عدواني ومصدر لزعزعة الاستقرار، ويشارك بشكل علني في تأجيج المخاوف من روسيا”. وفي إشارة إلى أن القرار يقع على عاتق قيادة أرمينيا، اقترح النظر إلى “الوضع في أوكرانيا”. وتساءل “هل أصبح الوضع أكثر أمناً هناك بعد أن أرادت أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، واتبعت سياسة الاقتراب قدر الإمكان من هذه الكتلة العدوانية؟”. وأشار جباروف إلى أن أرمينيا هي أحد أقرب حلفاء روسيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، فضلاً عن عضويتها في التحالف الاقتصادي الأوروآسيوي، فيما أعرب عن أمله في أن تتخذ يريفان “القرار الصحيح”.

وكتب في وقت سابق، غونتر فيلينغر رئيس اللجنة الأوروبية لتطوير حلف “الناتو”، إلى كل من رئيس الحكومة الأرمينية نيكول باشينيان، والرئيس الأميركي جو بايدن على شبكة التواصل الاجتماعي “إكس” (تويتر سابقاً)، يدعو الأول “إلى الانضمام لحلف الناتو”، والثاني إلى “الدفاع عن أرمينيا”. وأصدرت وزارة الدفاع الأرمينية بياناً قالت فيه، إن المناورات العسكرية المشتركة بين أرمينيا والولايات المتحدة “إيغل بارتنر 2023” ستجري على الأراضي الأرمينية في الفترة من 11 إلى 20 سبتمبر. وكانت الولايات المتحدة سبق وأجرت في أغسطس (آب) من العام الماضي مناورات مماثلة شارك فيها أيضاً ثلاثة من بلدان آسيا الوسطى في طاجيكستان وهي أيضاً من البلدان الأعضاء في معاهدة الأمن الجماعي.

ودعا رئيس لجنة التنمية الأوروبية في حلف “الناتو” أرمينيا للانضمام إلى الحلف “في إطار الاستعدادات للمشاركة في بعثات حفظ السلام الدولية، في الفترة من 11 إلى 20 سبتمبر في أرمينيا، على وجه الخصوص، في مركز تدريب “زار” التابع لقوات حفظ السلام ومركز التدريب “ن” التابع لوزارة الدفاع، وتتمثل أهداف التدريبات المشتركة “في زيادة مستوى قابلية التشغيل البيني للتشكيلات المشاركة في بعثات حفظ السلام الدولية، وتبادل أفضل الممارسات في مجال القيادة والسيطرة والاتصالات التكتيكية، وكذلك زيادة استعداد الوحدة الأرمنية للمهمة المخطط لها”. وقال رئيس لجنة التنمية الأوروبية في حلف “الناتو”، غونتر فيلينغر، إن أرمينيا يجب أن تنضم إلى هذا الحلف، وفي وقت لاحق صرح نائب وزير خارجية أرمينيا فاهان كوستانيان أن البلاد تتعاون مع “الناتو” بأشكال مختلفة ومستعدة لمواصلة هذه العملية.

استنهاض روسيا

ويذكر المراقبون أن باشينيان حاول أكثر من مرة استنهاض روسيا للوقوف إلى جوار أرمينيا في حربها مع أذربيجان انطلاقاً من وجود قاعدة عسكرية لها في أرمينيا، فضلاً عن عضويتها في معاهدة الأمن الجماعي التي لم تنضم إليها أذربيجان، وما إن اندلعت المعارك بين البلدين حتى أعلنت روسيا مواقفها، ما دفع أرمينيا إلى التحذير من تدهور العلاقات في حال “استمرار روسيا في تقاعسها”، على حد قول مصادر أرمينية دعت صراحة إلى أن علاقات الثقة بين موسكو ويريفان قد تتغير بشكل كبير، وتتدهور في حال تقاعس موسكو في ما يتعلق بهجوم الجيش الأذربيجاني على أراضي أرمينيا.

وقد نقلت ذلك وكالة “إنترفاكس” عن رئيس اللجنة الدائمة للدفاع والأمن في البرلمان الأرمني، عضو الفصيل الحاكم “العقد المدني” أندرانيك كوتشاريان الذي أضاف أيضاً “يجب على روسيا الرد على انتهاك نظام وقف إطلاق النار من قبل الجانب الأذربيجاني”. وشدد على أنه، من بين أمور أخرى، تم انتهاك جميع أحكام ميثاق منظمة معاهدة الأمن الجماعي، التي تعد أرمينيا عضواً فيها، مما يمنحها ضمانات في الدفاع الجماعي في حالة هجوم القوى الخارجية على البلاد.

وأضاف المسؤول الأرميني “أن هذه الأحكام تلزم موسكو التدخل في الوضع”. وحذر من أنه “حتى واقع الثقة الهش الموجود في الشراكة الاستراتيجية مع روسيا يمكن أن يتغير في غمضة عين إذا لم يكن هناك تدخل في وضع الحدود”.

ومن الملاحظ أن باشينيان يتأرجح في تصريحاته ما بين انتقاد مواقف روسيا واتهامها بالتقاعس، وبين تأكيده لعدم وجود مشكلات في العلاقات بين البلدين، وها هو يقول في أحد تصريحاته إن “علاقاتنا مع روسيا صادقة للغاية. لا توجد أزمة في العلاقة. نقول ونناقش ونسجل أن هناك مشكلات، بعضها موضوعي. لا توجد مشكلات ذاتية من شأنها أن يكون لها تأثير في العلاقات”.

وعلى رغم أن الرئيس الروسي يدرك حقيقة مواقف باشينيان ومدى تأرجحه تجاه علاقات بلاده مع روسيا فقد انتهز فرصة عيد ميلاده للضغط المعنوي على رئيس الحكومة الأرمينية بإشارته في برقية التهنئة، إلى التطور الناجح للعلاقات الثنائية، وإذ أعرب الرئيس الروسي عن أمله في مواصلة العمل المشترك في شأن القضايا الموضوعية على جدول الأعمال الثنائي والإقليمي، قال إنه “يقدر تقديراً كبيراً الحوار البناء الذي تم تأسيسه بينهما”.

وعن قضية ممر لاتشين قال بوتين خلال اجتماع مع باشينيان إن “روسيا لم تغير أبداً موقفها من ممر لاتشين، وهو ما ينعكس في الاتفاقات الثلاثية بين موسكو ويريفان وباكو”. وكان رئيس الوزراء الأرميني أعرب عن استيائه من نتائج المفاوضات مع المفاوضين الروس في شأن فتح ممر لاتشين، الذي تم في 25 مايو (أيار) في موسكو.

على أن ذلك لم يمنع دميتري بيسكوف الناطق الرسمي باسم الكرملين أن يعلن في برنامج “موسكو. الكرملين. بوتين” على قناة “روسيا 2” الإخبارية الرسمية أن “العلاقات بين روسيا وأرمينيا ذات مستقبل مشرق”، وأن روسيا لا تزال تنطلق من أن الوثائق الثلاثية التي وقعتها موسكو ويريفان وباكو، “أساس لا جدال فيه لحل الوضع في ناغورنو قره باغ، وأن العلاقات الخاصة بين البلدين ذات جذور تاريخية عميقة”.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى