رأي

أحمد الشرع.. رئيس سوريا القويّ الضعيف

كتب كيلي قسيس, في مجلة “ذا ناشونال إنترست” الأميركية:

لا وجود لأي علامات تدل على تراجع الرئيس السوري أحمد الشرع عن إضفاء الطابع المركزي على البلاد وتهميش الأقليات

بعد 7 أشهر من استيلائه على السلطة، نجح الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع في تحويل نفسه من جهادي شكلّ هدفاً لمكافأة أميركية قدرها 10 ملايين دولار إلى رجل دولة براغماتي وأمل للبلاد للمّ الشمل وتحقيق الاستقرار. وقد نجحت دبلوماسيته المتقنة، إلى جانب الإرهاق الدولي من الملف السوري والقلق المتزايد بشأن تفكك النظام في المنطقة، في ضمان تأييد أجنبي واسع النطاق. وشمل ذلك الولايات المتحدة، التي ألغت تصنيف ميليشياته السابقة، “هيئة تحرير الشام”، منظمة إرهابية، ورفعت معظم العقوبات عن البلاد، ودعمته دبلوماسياً عبر توم باراك، سفيرها لدى تركيا ومبعوثها الخاص إلى سوريا.

وبدل أن يُسهم هذا المظهر من الشرعية الدولية في استقرار البلاد، حجب غياب أي انتقال سياسي حقيقي، ما أدى بدوره إلى تفاقم الانقسامات الداخلية في سوريا. وقد كشف هجوم الشرع المشؤوم على السويداء عن هشاشة نظامه. في الوقت نفسه، ألحقت الصور ومقاطع الفيديو التي وثّقت الأعمال الوحشية التي ارتكبتها قوات الأمن والفصائل المتحالفة معها ضرراً بالغاً بصورته التي بناها بعناية في الداخل والخارج. وكشفت عن صدع أيديولوجي أعمق في بنية الدولة ذاتها، وهو صدعٌ قد يجرّ سوريا إلى دوامة جديدة من عدم الاستقرار والعنف، إن لم يُعالج.

وعلى الرغم من افتقاره إلى السيطرة الإقليمية الكاملة أو احتكار القوة، فقد تحرك الشرع قدماً بنظام حكم مركزي عدواني لم يؤد إلا إلى تعميق الانقسام على الأرض. ولا تزال قوات سوريا الديمقراطية (SDF) ذات القيادة الكردية والميليشيات الدرزية أبرز الرافضين لفكرة الاندماج في هياكل القيادة المركزية بالكامل بسبب التزام السلطات الحاكمة الصارم بنموذج استبدادي إسلامي. وقد قوبلت دعواتها إلى اللامركزية والتعددية والمشاركة الديمقراطية بالرفض المستمر.

وبدلاً من تقديم التنازلات لسدّ هذه الانقسامات الداخلية، استغلّ الشرع شرعيته الدولية المتنامية لترسيخ سلطته متجنباً حتى أبسط التنازلات. منذ البداية، مهّد مؤتمر “النصر” والإعلان الدستوري الطريق لهذا النظام الاستبدادي، فقد حالا دون ظهور الأحزاب السياسية، ومنح الرئاسة سيطرة شاملة على السلطتين التشريعية والقضائية. وهذا يُمكّن السلطات الجديدة من ترسيخ أيديولوجية متطرفة داخل مؤسسات الدولة، في إطار سعيها لإعادة تشكيل النسيج الاجتماعي السوري.

وما يحدث اليوم يتجاوز النزعات الاستبدادية البسيطة، ويكشف عن دعائم نظام شمولي، وهو واقع تحجبه روايات تُصوّر حكم الشرع سبيلاً ضرورياً للاستقرار. وعلى أرض الواقع، يتبلور هذا المشروع الأيديولوجي بطريقتين رئيسيتين. الأولى تتمثل في ظهور ما يُعرف بـ”شرطة الآداب العامة”. فبذريعة الحفاظ على الآداب العامة والقيم الإسلامية، شددت قوات الأمن والفصائل التابعة لها قبضتها على الحياة اليومية، فتحرشت بالنساء بسبب ملابسهن، وداهمت أو خربّت الحانات والمقاهي والأماكن الثقافية.

والطريقة الثانية تمثلت في بناء هوية وطنية ترتكز على الإحياء السني والرمزية الأموية الجديدة. إذ كانت الدولة الأموية الأصلية خلافة إسلامية حكمت من دمشق في القرنين السابع والثامن الميلاديين، وامتدت من شبه الجزيرة الأيبيرية إلى أطراف آسيا الوسطى. وعليه، فإنّ استحضار هذا الإرث الإمبراطوري يُقدم رؤيةً لاستعادة القوة، تُناسب المجتمعات السنية التي عانت من ندوب الحرب الأهلية، لكنها تُؤجج أيضاً التوترات الطائفية. ففي أجزاء من قاعدة بني أمية، أصبحت الهتافات الداعية إلى قتل الأقليات أو طردها شائعةً بشكلٍ مثير للقلق، إلى جانب عمليات القتل والخطف.

مواضيع متعلقة

“المونيتور”: هل يُفاقم الاتفاق الأمني المرتقب بين “إسرائيل” وسوريا صراع النفوذ مع تركيا؟
28 اب 10:35

“المونيتور”: “سانا” باللغة الكردية.. تكتيك أم تحوّل حقيقي؟
21 اب 13:39

وفي حين وظّف نظام الأسد الطائفية كسلاحٍ لسياسة “فرّق تسد”، جعلها الشرع ركيزةً أساسيةً في بناء دولته الأيديولوجية. وهذا الإطار يُجرّد المعارضة من الأقليات من شرعيتها بتصويرها على أنها تخريب انفصالي، بينما يحشد المؤيدين حول رؤيةٍ إقصائيةٍ للوحدة الوطنية. وقد شكّل هذا الإطار أساساً لاثنتين من أقوى محاولات الشرع لإعادة فرض سيطرته، واللتين تحولتا إلى مذبحةٍ طائفيةٍ جماعية.

ففي آذار/مارس، أقدمت السلطات الجديدة وأنصارها على قتل نحو 1500 مدني علوي في المنطقة الساحلية خلال حملة قمع وحشية لمحاولة تمرد قامت بها فلول النظام السابق. وتكررت الأحداث في تموز/ يوليو، عندما استُخدمت الاشتباكات المحلية بين البدو والدروز ذريعةً لشنّ هجومٍ على محافظة السويداء ذات الأغلبية الدرزية. وكان الهدفُ إزاحة الشيخ حكمت الهجري، المرجع الدينيّ الأبرز في المحافظة والمعارض الصريح للحكومة الجديدة، وتفكيكَ الميليشيات الدرزية التي تقاوم الاندماج في جهاز أمن الدولة.

وفشل الهجوم في النهاية وانقلب إلى انسحاب مُهين لدمشق، أفسدته الحسابات السياسية الخاطئة والتدخل الإسرائيلي. ووحّدت حملة العقاب الجماعي الفصائل الدرزية خلف الهجري، الذي أصبح منذ ذلك الحين محوراً للمقاومة. كما أثارت ضغوطاً من الدروز في “إسرائيل” للتدخل دفاعاً عن طائفتهم.

ورداً على ذلك، قصفت القوات الإسرائيلية وحدات مسلحة تتقدم باتجاه السويداء، واستهدفت منشآت عسكرية خارج المحافظة، بما في ذلك مقر القيادة العسكرية السورية في دمشق. ومنذ ذلك الحين، بدأت بتقديم مساعدات إنسانية، ويُشتبه في تقديمها دعماً عسكرياً سرياً. وعلى الرغم من صمود وقف إطلاق النار الهش منذ 19 تموز/ يوليو، فإن أي هجوم شامل آخر من شأنه أن يدفع إلى رد أقوى، بما في ذلك توجيه ضربات محتملة لكبار قادة النظام.

لقد قضت هذه المجريات على آمال الأقليات السورية، التي تُشكل ربع السكان تقريباً. ويشعر الكثيرون الآن أن هذه الحكومة لا تُمثلهم وأنها تتحمل المسؤولية المباشرة عن اضطهادهم. وقد شجع هذا الشعور بخيبة الأمل الدروز وقوات سوريا الديمقراطية، الذين يشكلون اليوم نواة كتلة متنامية من المعارضين لحكم الشرع. كما يتزايد الإحباط بين عموم السكان، مدفوعاً بتفشي الجريمة والإفلات من العقاب والوضع الاقتصادي المتردي.

قد تصل تكلفة إعادة إعمار سوريا إلى 400 مليار دولار، وعلى الرغم من إمكاناتها الاقتصادية، لا تزال تعاني من نقص حاد في ثقة المستثمرين. فبدون إصلاحات شاملة، قد لا تتمكن البلاد من جذب رأس المال الخارجي الذي تحتاجه بشدة للحفاظ على الاستقرار الداخلي والشفافية والحكومة الموحدة. في الوقت نفسه، تُعاني سوريا من واحدة من أشد موجات الجفاف التي شهدتها منذ 7 عقود، بحيث تشير التقديرات إلى فشل 75% من محصول القمح، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم أزمة الغذاء المستمرة. وفي ظل غياب أي تحسينات ملموسة في الظروف المعيشية، قد تنهار شعبية الشرع بحلول نهاية العام. فالنظام الذي لا يوفر الحرية والأمن والرخاء يرتكز على أسس هشة وخطيرة.

تقف سوريا الآن عند مفترق طرق. فبإمكان الشرع مواصلة نهجه الحالي المتمثل في المركزية بالإكراه. ويكاد يكون من المؤكد أن هذه الاستراتيجية ستثير مقاومة أعمق، وقد تُعرّض البلاد لخطر العودة إلى حرب أهلية شاملة. أما الحل البديل، فيتمثل في إطلاق انتقال سياسي حقيقي بإلغاء الإعلان الدستوري والسماح بتشكيل أحزاب سياسية مستقلة. ويجب أن يشمل ذلك تقديم تنازلات بشأن اللامركزية لمنع الانتكاس الاستبدادي وعكس التنوع في سوريا، إلى جانب العدالة الانتقالية والمساءلة وإنفاذ القانون ضد التحريض الطائفي.

وعلى الرغم من وجود مبرر مشروع لتخفيف العقوبات الاقتصادية، فإن ذلك لا ينبغي أن يصبح بمثابة شيك على بياض للشرع، لا سيما في ظل الفشل الدائم للمبادرات الدبلوماسية الرمزية في فرض إصلاحات حقيقية. ومن المفارقات أن النظر إلى سوريا من منظور أمني فحسب هو ما يعزز نموذج الحكم الذي يُغذي عدم استقرار البلاد. وحده الضغط الخارجي المستمر، المرتبط بالإصلاح الهيكلي، قادر على منع سوريا من الانزلاق إلى دوامة أخرى من القمع والتمرّد.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى